فصل: بَيَانُ عِلَاجِ كَرَاهَةِ الذَّمِّ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين



.بَيَانُ عِلَاجِ كَرَاهَةِ الذَّمِّ:

يُفْهَمُ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَالْقَوْلُ الْوَجِيزُ فِيهِ أَنَّ مَنْ ذَمَّكَ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا قَدْ يَكُونُ قَدْ صَدَقَ فِيمَا قَالَ وَقَصَدَ بِهِ النُّصْحَ وَالشَّفَقَةَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا وَلَكِنَّ قَصْدَهُ الْإِيذَاءُ وَالتَّعَنُّتُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا.
فَإِنْ كَانَ صَادِقًا وَقَصْدُهُ النُّصْحَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَذُمَّهُ وَتَغْضَبَ عَلَيْهِ وَتَحْقِدَ بِسَبَبِهِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَتَقَلَّدَ مِنَّتَهُ، فَإِنَّ مَنْ أَهْدَى إِلَيْكَ عُيُوبَكَ فَقَدْ أَرْشَدَكَ إِلَى الْمُهْلِكِ حَتَّى تَتَّقِيَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَفْرَحَ بِهِ وَتَشْتَغِلَ بِإِزَالَةِ الصِّفَةِ الْمَذْمُومَةِ عَنْ نَفْسِكَ إِنْ قَدَرْتَ عَلَيْهَا، فَأَمَّا اغْتِمَامُكَ بِسَبَبِهِ وَكَرَاهَتُكَ لَهُ وَذَمُّكَ إِيَّاهُ فَإِنَّهُ غَايَةُ الْجَهْلِ.
وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ التَّعَنُّتَ فَأَنْتَ قَدِ انْتَفَعْتَ بِقَوْلِهِ إِذْ أَرْشَدَكَ إِلَى عَيْبِكَ إِنْ كُنْتَ جَاهِلًا بِهِ لِتُقْلِعَ عَنْهُ، وَذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَتِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَفْرَحَ بِهِ؛ لِأَنَّ تَنَبُّهَكَ بِقَوْلِهِ غَنِيمَةٌ، وَجَمِيعُ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ مُهْلِكَةٌ فِي الْآخِرَةِ، وَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَعْرِفُهَا مِنْ قَوْلِ أَعْدَائِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَغْتَنِمَهُ، وَأَمَّا قَصْدُ الْعَدُوِّ التَّعَنُّتَ فَجِنَايَةٌ مِنْهُ عَلَى دِينِ نَفْسِهِ، وَهُوَ نِعْمَةٌ مِنْهُ عَلَيْكَ، فَلِمَ تَغْضَبُ عَلَيْهِ بِقَوْلٍ انْتَفَعْتَ بِهِ أَنْتَ وَتَضَرَّرَ هُوَ بِهِ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَيْكَ بِمَا أَنْتَ بَرِيءٌ مِنْهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَكْرَهَ ذَلِكَ، وَلَا تَشْتَغِلْ بِذَمِّهِ، بَلْ تَتَفَكَّرُ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: إِنْ خَلَوْتَ مِنْ ذَلِكَ الْعَيْبِ فَلَا تَخْلُو عَنْ أَمْثَالِهِ وَأَشْبَاهِهِ، وَمَا سَتَرَهُ اللَّهُ مِنْ عُيُوبِكَ أَكْثَرُ، فَاشْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى إِذْ لَمْ يُطْلِعْهُ عَلَى عُيُوبِكَ وَدَفَعَهُ عَنْكَ بِذِكْرِ مَا أَنْتَ بَرِيءٌ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ لِبَقِيَّةِ مَسَاوِئِكَ وَذُنُوبِكَ، وَكُلُّ مَنِ اغْتَابَكَ فَقَدْ أَهْدَى إِلَيْكَ حَسَنَاتِهِ، وَكُلُّ مَنْ مَدَحَكَ فَقَدْ قَطَعَ ظَهْرَكَ، فَمَا بَالُكَ تَفْرَحُ بِقَطْعِ الظَّهْرِ وَتَحْزَنُ لِهَدَايَا الْحَسَنَاتِ الَّتِي تُقَرِّبُكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ تُحِبُّ الْقُرْبَ مِنَ اللَّهِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَهُوَ أَنَّ الْمِسْكِينَ قَدْ جَنَى عَلَى دِينِهِ حَتَّى سَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ بِافْتِرَائِهِ وَتَعَرَّضَ لِعِقَابِهِ الْأَلِيمِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَغْضَبَ عَلَيْهِ مَعَ غَضَبِ اللَّهِ فَتُشَمِّتَ بِهِ الشَّيْطَانَ وَتَقُولَ: اللَّهُمَّ أَهْلِكْهُ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْهُ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»، لَمَّا أَنْ كَسَرُوا ثَنِيَّتَهُ وَشَجُّوا وَجْهَهُ وَقَتَلُوا عَمَّهُ حمزة يَوْمَ أُحُدٍ.
وَمِمَّا يُهَوِّنُ عَلَيْكَ كَرَاهِيَةَ الْمَذَمَّةِ قَطْعُ الطَّمَعِ، فَإِنَّ مَنِ اسْتَغْنَيْتَ عَنْهُ مَهْمَا ذَمَّكَ لَمْ يَعْظُمْ أَثَرُ ذَلِكَ فِي قَلْبِكَ، وَأَصْلُ الدِّينِ الْقَنَاعَةُ، وَبِهِمَا يَنْقَطِعُ الطَّمَعُ عَنِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَمَا دَامَ الطَّمَعُ قَائِمًا كَانَ حُبُّ الْجَاهِ وَالْمَدْحِ فِي قَلْبِ مَنْ طَمِعْتَ فِيهِ غَالِبًا، وَكَانَتْ هِمَّتُكَ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَنْزِلَةِ فِي قَلْبِهِ مَصْرُوفَةً، وَلَا يُنَالُ ذَلِكَ إِلَّا بِهَدْمِ الدِّينِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَطْمَعَ طَالِبُ الْجَاهِ وَمُحِبُّ الْمَدْحِ وَمُبْغِضُ الذَّمِّ فِي سَلَامَةِ دِينِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ بَعِيدٌ جِدًّا.

.بَيَانُ ذَمِّ الرِّيَاءِ:

وَهُوَ طَلَبُ الْجَاهِ وَالْمَنْزِلَةِ بِالْعِبَادَاتِ: اعْلَمْ أَنَّ الرِّيَاءَ حَرَامٌ، وَالْمُرَائِيَ عِنْدَ اللَّهِ مَمْقُوتٌ، وَقَدْ شَهِدَتْ لِذَلِكَ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ:
أَمَّا الْآيَاتُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الْمَاعُونِ: 4- 6] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فَاطِرٍ: 10] قَالَ مجاهد: هُمْ أَهْلُ الرِّيَاءِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الْإِنْسَانِ: 9].
فَمَدْحُ الْمُخْلِصِينَ بِنَفْيِ كُلِّ إِرَادَةٍ سِوَى وَجْهِ اللَّهِ وَالرِّيَاءُ ضِدُّهُ وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 110] نَزَلَ ذَلِكَ فِيمَنْ يَطْلُبُ الْأَجْرَ وَالْحَمْدَ بِعِبَادَاتِهِ وَأَعْمَالِهِ.
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ عَمِلَ لِي عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَأَنَا أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنِ الشِّرْكِ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ» قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جَازَ الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمُ الْجَزَاءَ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَمَلًا فِيهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ رِيَاءٍ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَدْنَى الرِّيَاءِ شِرْكٌ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ رَجُلًا تَصَدَّقَ بِيَمِينِهِ فَكَانَ يُخْفِيهَا عَنْ شِمَالِهِ».
وَلِذَلِكَ وَرَدَ: إِنَّ فَضْلَ عَمَلِ السِّرِّ عَلَى عَمَلِ الْجَهْرِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا.
وَرُوِيَ أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقُولُ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلْيَدْهِنْ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ وَيَمْسَحْ شَفَتَيْهِ، لِئَلَّا يَرَى النَّاسُ أَنَّهُ صَائِمٌ، وَإِذَا أَعْطَى بِيَمِينِهِ فَلْيُخْفِ عَنْ شِمَالِهِ، وَإِذَا صَلَّى فَلْيُرْخِ سِتْرَ بَابِهِ».
وَمِنَ الْآثَارِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى رَجُلًا يُطَأْطِئُ رَقَبَتَهُ فَقَالَ: يَا صَاحِبَ الرَّقَبَةِ ارْفَعْ رَقَبَتَكَ لَيْسَ الْخُشُوعُ فِي الرِّقَابِ إِنَّمَا الْخُشُوعُ فِي الْقُلُوبِ.
وَرَأَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ رَجُلًا فِي الْمَسْجِدِ يَبْكِي فِي سُجُودِهِ فَقَالَ: أَنْتَ أَنْتَ! لَوْ كَانَ هَذَا فِي بَيْتِكَ.
وَقَالَ الضحاك: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ هَذَا لِوَجْهِ اللَّهِ وَلِوَجْهِكَ، وَلَا يَقُولَنَّ هَذَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا شَرِيكَ لَهُ.

.بَيَانُ حَقِيقَةِ الرِّيَاءِ وَجَوَامِعِ مَا يُرَاءَى بِهِ:

اعْلَمْ أَنَّ الرِّيَاءَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَأَصْلُهُ طَلَبُ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ بِإِيرَائِهِمْ خِصَالَ الْخَيْرِ؛ وَالْمُرَاءَى بِهِ كَثِيرٌ وَيَجْمَعُهُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ وَهِيَ مَجَامِعُ مَا يَتَزَيَّنُ بِهِ الْعَبْدُ لِلنَّاسِ، وَهُوَ الْبَدَنُ، وَالزِّيُّ، وَالْقَوْلُ، وَالْعَمَلُ، وَالْأَتْبَاعُ وَالْأَشْيَاءُ الْخَارِجَةُ.
فَأَمَّا الرِّيَاءُ فِي الدِّينِ بِالْبَدَنِ فَكَإِظْهَارِ النُّحُولِ وَالصَّفَارِ لِيُوهِمَ بِذَلِكَ شِدَّةَ الِاجْتِهَادِ وَعِظَمَ الْحُزْنِ عَلَى أَمْرِ الدِّينِ غَلَبَةَ خَوْفِ الْآخِرَةِ،0 وَكَتَشْعِيثِ الشَّعْرِ لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْهَمِّ بِالدِّينِ وَعَدَمِ التَّفَرُّغِ لِتَسْرِيحِ الشَّعْرِ، وَمِثْلُهُ خَفْضُ الصَّوْتِ وَإِغَارَةُ الْعَيْنَيْنِ لِيَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُوَاظِبٌ عَلَى الصَّوْمِ أَوْ مُتَوَقِّرٌ لِلدِّينِ أَوْ ضَعِيفُ الْقُوَّةِ مِنَ الْجُوعِ، وَعَنْ هَذَا رُوِيَ إِذَا صَامَ أَحَدُكُمْ فَلْيَدْهِنْ رَأْسَهُ وَيُرَجِّلْ شَعْرَهُ وَيَكْحُلْ عَيْنَيْهِ لِمَا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ بِالرِّيَاءِ.
وَأَمَّا الرِّيَاءُ بِالْهَيْئَةِ وَالزِّيِّ فَمِثْلُ تَشْعِيثِ الشَّعْرِ وَحَلْقِ الشَّارِبِ وَإِطْرَاقِ الرَّأْسِ فِي الْمَشْيِ وَالْهَدْءِ فِي الْحَرَكَةِ وَإِبْقَاءِ أَثَرِ السُّجُودِ عَلَى الْوَجْهِ وَغِلَظِ الثِّيَابِ، وَلُبْسِ الصُّوفِ وَتَشْمِيرِهَا إِلَى قَرِيبٍ مِنَ السَّاقِ وَتَقْصِيرِ الْأَكْمَامِ، كُلُّ ذَلِكَ يُرَائِي بِهِ لِيُظْهِرَ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلسُّنَّةِ وَمُقْتَدٍ بِالصَّالِحِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ لُبْسُ الْمُرَقَّعَةِ وَالصَّلَاةُ عَلَى السَّجَّادَةِ وَلُبْسُ الثِّيَابِ الزُّرْقِ تَشَبُّهًا بِالصُّوفِيَّةِ مَعَ الْإِفْلَاسِ مِنْ حَقَائِقِ التَّصَوُّفِ فِي الْبَاطِنِ، وَمِنْهُ التَّقَنُّعُ فَوْقَ الْعِمَامَةِ وَإِسْبَالُ الرِّدَاءِ عَلَى الْعَيْنَيْنِ، وَمِنْهُ الطَّيْلَسَانُ يَلْبَسُهُ مَنْ هُوَ خَالٍ عَنِ الْعِلْمِ لِيُوهِمَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَالْمُرَاءُونَ بِالزِّيِّ عَلَى طَبَقَاتٍ كُلُّ طَبَقَةٍ مِنْهُمْ يَرَى مَنْزِلَتَهُ فِي زِيٍّ مَخْصُوصٍ فَيَثْقُلُ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ إِلَى مَا دُونَهُ وَإِلَى مَا فَوْقَهُ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا، بَلْ هُوَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الذَّبْحِ وَذَلِكَ لِخَوْفِهِ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: قَدْ بَدَا لَهُ مِنَ الزُّهْدِ وَرَجَعَ عَنْ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ وَرَغِبَ فِي الدُّنْيَا.
وَأَمَّا الرِّيَاءُ بِالْقَوْلِ فَرِيَاءُ أَهْلِ الدِّينِ بِالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ وَالنُّطْقِ بِالْحِكْمَةِ وَحِفْظِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ لِإِظْهَارِ شِدَّةِ الْعِنَايَةِ بِأَحْوَالِ الصَّالِحِينَ، وَتَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ بِالذِّكْرِ فِي مَحْضَرِ النَّاسِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِمَشْهَدِ الْخَلْقِ، وَإِظْهَارِ الْغَضَبِ لِلْمُنْكَرَاتِ، وَإِظْهَارِ الْأَسَفِ عَلَى مُقَارَفَةِ النَّاسِ لِلْمَعَاصِي، وَتَضْعِيفِ الصَّوْتِ فِي الْكَلَامِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ أَوْ غَيْرُ صَحِيحٍ لِإِظْهَارِ الْفَضْلِ فِيهِ، وَالْمُجَادَلَةِ عَلَى قَصْدِ إِفْحَامِ الْخَصْمِ.
وَأَمَّا الرِّيَاءُ بِالْعَمَلِ فَكَمُرَاءَاةِ الْمُصَلِّي بِطُولِ الْقِيَامِ وَطُولِ السُّجُودِ وَالرُّكُوعِ وَإِطْرَاقِ الرَّأْسِ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ.
وَأَمَّا الْمُرَاءَاةُ بِالْأَصْحَابِ وَالزَّائِرِينَ وَالْمُخَالِطِينَ كَالَّذِي يَتَكَلَّفُ أَنْ يَسْتَزِيرَ عَالِمًا مِنَ الْعُلَمَاءِ لِيُقَالَ: إِنَّ فُلَانًا قَدْ زَارَ فُلَانًا، أَوْ عَابِدًا مِنَ الْعُبَّادِ لِيُقَالَ: إِنَّ أَهْلَ الدِّينِ يَتَبَرَّكُونَ بِزِيَارَتِهِ وَيَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ، أَوْ أَمِيرًا مِنَ الْأُمَرَاءِ لِيُقَالَ: إِنَّهُمْ يَتَبَرَّكُونَ بِهِ، وَكَالَّذِي يُكْثِرُ ذِكْرَ الشُّيُوخِ وَطَوَافَ الْبِلَادِ لِيَتَبَاهَى عِنْدَ خَصْمِهِ.
فَهَذِهِ مَجَامِعُ مَا يُرَائِي بِهِ الْمُرَاءُونَ، وَكُلُّهُمْ يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ الْجَاهَ وَالْمَنْزِلَةَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ نَوْعُ قُدْرَةٍ وَكَمَالٍ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ سَرِيعَ الزَّوَالِ لَا يَغْتَرُّ بِهِ إِلَّا الْجُهَّالُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ جُهَّالٌ.
وَمِنَ الْمُرَائِينَ مَنْ لَا يَقْنَعُ بِقِيَامِ مَنْزِلَتِهِ، بَلْ يَلْتَمِسُ مَعَ ذَلِكَ إِطْلَاقَ اللِّسَانِ بِالثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ انْتِشَارَ الصِّيتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ الِاشْتِهَارَ عِنْدَ الْأُمَرَاءِ لِتَقَبُّلِ شَفَاعَتِهِ فَيَقُومُ لَهُ جَاهٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْصِدُ التَّوَصُّلَ بِذَلِكَ إِلَى جَمْعِ حُطَامٍ وَكَسْبِ مَالٍ وَلَوْ كَانَ مِنَ الْحَرَامِ، وَهَؤُلَاءِ شَرُّ طَبَقَاتِ الْمُرَائِينَ.

.حُكْمُ الرِّيَاءِ:

اعْلَمْ أَنَّ الرِّيَاءَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْعِبَادَاتِ أَوْ بِغَيْرِ الْعِبَادَاتِ، فَأَمَّا الْمُرَاءَاةُ بِمَا لَيْسَ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَقَدْ تَكُونُ مُبَاحَةً كَتَسْوِيَةِ الْعِمَامَةِ وَالشَّعْرِ وَتَحْسِينِ الثَّوْبِ لِئَلَّا تَزْدَرِيَهُ أَعْيُنُ النَّاسِ وَاحْتِرَازًا مِنْ أَلَمِ الْمَذَمَّةِ وَطَلَبًا لِرَاحَةِ الْأُنْسِ بِالْإِخْوَانِ، وَقَدْ تَكُونُ طَاعَةً كَمَا إِذَا كَانَ مَتْبُوعًا وَعَمَلُهُ الْمَذْكُورُ يُرَغِّبُ فِي اتِّبَاعِهِ وَاسْتِمَالَةِ الْقُلُوبِ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَكُونُ مَذْمُومَةً كَمَا إِذَا حُمِلَتْ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ، أَوْ دَعَتْ إِلَى أُمُورٍ مَحْظُورَاتٍ، وَبِالْجُمْلَةِ فَحُكْمُهَا تَابِعٌ لِلْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ بِهَا. وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ كَالصَّدَقَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْغَزْوِ وَالْحَجِّ فَالْمُرَائِي فِيهَا يُبْطِلُ عِبَادَاتِهِ وَيَعْصِي وَيَأْثَمُ، وَالْمَعْنِيُّ فِيهِ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادِ، وَهُوَ التَّلْبِيسُ وَالْمَكْرُ؛ لِأَنَّهُ خُيِّلَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ مُخْلِصٌ مُطِيعٌ لِلَّهِ وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
الثَّانِي: يَتَعَلَّقُ بِاللَّهِ، وَهُوَ أَنَّهُ مَهْمَا قَصَدَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقَ اللَّهِ فَهُوَ مُسْتَهْزِئٌ بِاللَّهِ كَمَا وَرَدَ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ بَيْنَ يَدَيْ مَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ طُولَ النَّهَارِ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ الْخَدَمِ. وَإِنَّمَا وُقُوفُهُ لِمُلَاحَظَةِ جَارِيَةٍ مِنْ جَوَارِيهِ أَوْ غُلَامٍ مِنْ غِلْمَانِهِ، فَإِنَّ هَذَا اسْتِهْزَاءٌ بِالْمَلِكِ إِذْ لَمْ يَقْصِدِ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ بِخِدْمَتِهِ، بَلْ قَصَدَ بِذَلِكَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ، فَأَيُّ اسْتِحْقَارٍ يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقْصِدَ الْعَبْدُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُرَاءَاةَ عَبْدٍ ضَعِيفٍ لَا يَمْلِكُ لَهُ ضَرًّا، وَلَا نَفْعًا؟ وَهَلْ ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ أَقْدَرُ عَلَى تَحْصِيلِ أَغْرَاضِهِ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ أَوْلَى بِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ إِذْ آثَرَهُ عَلَى مَلِكِ الْمُلُوكِ فَجَعَلَهُ مَقْصُودَ عِبَادَتِهِ، وَأَيُّ اسْتِهْزَاءٍ يَزِيدُ عَلَى رَفْعِ الْعَبْدِ فَوْقَ الْمَوْلَى؟ فَهَذَا مِنْ كَبَائِرِ الْمُهْلِكَاتِ وَلِذَا سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشِّرْكَ الْأَصْغَرَ» وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الرِّيَاءِ إِلَّا أَنَّهُ يَسْجُدُ وَيَرْكَعُ لِغَيْرِ اللَّهِ لَكَانَ فِيهِ كِفَايَةٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ قَصَدَ غَيْرَ اللَّهِ، وَعَنْ هَذَا كَانَ شِرْكًا خَفِيًّا، وَذَلِكَ غَايَةُ الْجَهْلِ، وَلَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ خَدَعَهُ الشَّيْطَانُ وَأَوْهَمَ عِنْدَهُ أَنَّ الْعِبَادَ يَمْلِكُونَ مِنْ مَصَالِحِ حَالِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَمْلِكُهُ اللَّهُ تَعَالَى، مَعَ أَنَّ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لَا يَمْلِكُونَ لَهَا ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، فَكَيْفَ يَمْلِكُونَ لِغَيْرِهِمْ؟ هَذَا فِي الدُّنْيَا فَكَيْفَ فِي يَوْمٍ: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لُقْمَانَ: 33]. بَلْ تَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ فِيهِ: «نَفْسِي نَفْسِي» فَكَيْفَ يَسْتَبْدِلُ الْجَاهِلُ عَنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ مَا يَرْتَقِبُهُ بِطَمَعِهِ الْكَاذِبِ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّاسِ؟ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَشُكَّ فِي أَنَّ الْمُرَائِيَ بِطَاعَةِ اللَّهِ فِي سُخْطِ اللَّهِ تَعَالَى.

.دَرَجَاتُ الرِّيَاءِ:

اعْلَمْ أَنَّ أَغْلَظَ أَنْوَاعِ الرِّيَاءِ هُوَ الرِّيَاءُ بِأَصْلِ الْإِيمَانِ، وَصَاحِبُهُ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ، وَهُوَ الَّذِي يُظْهِرُ كَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ وَبَاطِنُهُ مَشْحُونٌ بِالتَّكْذِيبِ، وَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى، وَذَلِكَ مِمَّا يَقِلُّ فِي زَمَانِنَا.
وَيَلْحَقُ بِهِ مَنْ يَجْحَدُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ أَوْ يَعْتَقِدُ طَيَّ بِسَاطِ الشَّرْعِ وَالْأَحْكَامِ مَيْلًا إِلَى أَهْلِ الْإِبَاحَةِ، أَو يَعْتَقِدُ كُفْرًا وَهُوَ يُظْهِرُ خِلَافَهُ، فَهَؤُلَاءِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْمُرَائِينَ الْمُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ.
وَقِسْمٌ مِنَ الرِّيَاءِ دُونَ الْأَوَّلِ بِكَثِيرٍ كَمَنْ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ أَوِ الصَّلَاةَ، وَلَوْلَا خَوْفُ الْمَذَمَّةِ لَكَانَ لَا يَحْضُرُهَا، أَوْ يَصِلُ رَحِمَهُ أَوْ يَبَرُّ وَالِدَيْهِ لَا عَنْ رَغْبَةٍ لَكِنْ خَوْفًا مِنَ النَّاسِ، أَوْ يُزَكِّي أَوْ يَحُجُّ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ خَوْفُهُ مِنْ مَذَمَّةِ النَّاسِ أَعْظَمَ مِنْ خَوْفِهِ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ، وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْلِ وَمَا أَجْدَرَ صَاحِبَهُ بِالْمَقْتِ.
وَقِسْمٌ يُرَائِي بِالنَّوَافِلِ يَكْسَلُ عَنْهَا فِي الْخَلْوَةِ ثُمَّ يَبْعَثُهُ الرِّيَاءُ عَلَى فِعْلِهَا كَحُضُورِ الْجَمَاعَةِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ وَصَوْمِ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ خَوْفًا مِنَ الْمَذَمَّةِ، وَطَلَبًا لِلْمَحْمَدَةِ، وَيَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ خَلَا بِنَفْسِهِ لَمَا زَادَ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَهَذَا أَيْضًا عَظِيمٌ وَلَكِنْ دُونَ مَا قَبْلَهُ.
وَقِسْمٌ يُرَائِي بِفِعْلِ مَا فِي تَرْكِهِ نُقْصَانُ الْعِبَادَةِ كَالَّذِي غَرَضُهُ أَنْ يُخَفِّفَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَلَا يُطَوِّلَ الْقِرَاءَةَ فَإِذَا رَآهُ النَّاسُ أَحْسَنَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَتَرَكَ الِالْتِفَاتَ وَتَمَّمَ الْقُعُودَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَعْتَادُ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنَ الدَّنَانِيرِ الرَّدِيئَةِ أَوْ مِنَ الْحَبِّ الرَّدِيءِ، فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ أَخْرَجَهَا مِنَ الْجَيِّدِ خَوْفًا مِنْ مَذَمَّتِهِ، وَكَذَلِكَ الصَّائِمُ يَصُونُ صَوْمَهُ عَنِ الْغِيبَةِ وَالرَّفَثِ لِأَجْلِ الْخَلْقِ لَا إِكْمَالًا لِعِبَادَةِ الصَّوْمِ خَوْفًا مِنَ الْمَذَمَّةِ، فَهَذَا أَيْضًا مِنَ الرِّيَاءِ الْمَحْظُورِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا لِلْمَخْلُوقِينَ عَلَى الْخَالِقِ، فَإِنْ قَالَ الْمُرَائِي: إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ صِيَانَةً لِأَلْسِنَتِهِمْ عَنِ الْغِيبَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذِهِ مَكِيدَةٌ لِلشَّيْطَانِ عِنْدَكَ وَتَلْبِيسٌ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ ضَرَرَكَ مِنْ نُقْصَانِ صَلَاتِكَ وَهِيَ خِدْمَةٌ مِنْكَ لِمَوْلَاكَ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِكَ بِغِيبَةِ غَيْرِكَ، فَلَوْ كَانَ بَاعِثُكَ الدِّينَ لَكَانَتْ شَفَقَتُكَ عَلَى نَفْسِكَ أَكْثَرَ.
وَقِسْمٌ يُرَائِي بِفِعْلِ مَا لَا نُقْصَانَ فِي تَرْكِهِ وَلَكِنَّ فِعْلَهُ فِي حُكْمِ التَّكْمِلَةِ وَالتَّتِمَّةِ لِعِبَادَتِهِ، كَالتَّطْوِيلِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَمَدِّ الْقِيَامِ وَتَحْسِينِ الْهَيْئَةِ وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَتَحْسِينِ الِاعْتِدَالِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الصُّورَةِ الْمُعْتَادَةِ، وَكَذَلِكَ كَثْرَةُ الْخَلْوَةِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وَطُولُ الصَّمْتِ مِمَّا لَوْ خَلَا بِنَفْسِهِ لَكَانَ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ.
وَقِسْمٌ يُرَائِي بِزِيَادَاتٍ خَارِجَةٍ عَنْ نَفْسِ النَّوَافِلِ أَيْضًا كَحُضُورِهِ الْجَمَاعَةَ قَبْلَ الْقَوْمِ وَقَصْدِهِ لِلصَّفِّ الْأَوَّلِ وَتَوَجُّهِهِ إِلَى يَمِينِ الْإِمَامِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ خَلَا بِنَفْسِهِ لَكَانَ لَا يُبَالِي أَيْنَ وَقَفَ وَمَتَى يُحْرِمُ بِالصَّلَاةِ. فَهَذِهِ دَرَجَاتُ الرِّيَاءِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا يُرَاءَى بِهِ، وَبَعْضُهُ أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ، وَالْكُلُّ مَذْمُومٌ.